اشترك في النشرة البريدية

منطقة الصفرحجاج نصار*


 ذُكر في المخطوط أن العثور على عالم آثار مقتولا ومشوه الوجه، لم يكن الداعي لحالة الفزع التي أصابت فريق التنقيب، وأن تسرب الخوف إليهم واستغراقهم في اليأس، نتج عن زيادة احتمال، استحالة الوصول إلى كشف عظيم، يطل من خلف مخلفات العصور المندثرة في حفريات تلك المنطقة، فزادوا من حدة التوغل والإمعان في التنقيب، الترتيب، إعادة الترتيب للقطع المكتشفة، ومحاولات خلق معنى لرموزها، وكشف تاريخ من عاشوا هناك. ولم يدركوا وقتها أن ذلك سيكون بداية لكل ما سيقال لاحقا عن هذه المنطقة.

فى سيرهم المتواترة، أجمع المحققون على أن المخطوط، لم يحدد معالم المنطقة بوضوح، بقدر ما أدى إلى التشوش، والحيرة، المبالغة في خطورة المآلات، ووصلها بمكامن الفزع في الإنسان، فامتدت إلى كل باحث مرّ من هنا على مدار التاريخ، فجفل كثيرون، وتردد البعض، وتقدم آخرون إليها بخطى مفقودة الأثر.

فمنطقة الصفر كما أطلق عليها ـ والروايات متعددة حول جذور هذا الاسم وسببه – كانت من أوعر المناطق ألغازا في تاريخ العالم القديم والحديث، وخطّوا أيضا أن من يدخلها لا يخرج منها أبدا، أو لا يخرج كما كان أبدا، ويتوقف ذلك على درجة تصميم الباحث، في تعقب معانى نقوش الجدران، أو مخلفات الحفريات من العصور المتتابعة.

فذُكر أن الرموز المنقوشة على جدران المعبد الوحيد القائم في وسط المنطقة، لم يتم العثور على معنى لها، أو مقابل في اللغات المختلفة، وحتى أكبر علماء الآثار، الذي وجد ميتا بجانب جدار المعبد مشوه الوجه، ورد أنه ما من تشوه إلا وخلفه هذه المنطقة.

يقال إن طبقات الحفريات لم تشر إلى أي آثار تكونت بمرور الزمن، أو التحام بينها ينبه إلى تنوع العصور التي مرت بها المنطقة، وكأنها خُلقت في لحظة زمنية واحدة، ومستمرة إلى الأبد. انكب المنقبون على الحفر، النفاذ لما تحت سطح هذه الطبقات بسرعة، شهيتهم للكشف، وشراسة التنقيب، أودت بهم إلى الأربع عشرة قطعة أثرية، كل قطعة تأخذ شكلاً مختلفاً، بتجويف منحوت، يدل على صلة بقطعة أخرى، وعلى كل قطعة رموز منقوشة في تراص متواصل متدفق ولامع، لم يُقطع بعد بمعناها.

ثلاثة أعوام مستمرة، وفريق البحث، ينغمس في توفيق كل قطعة مع الأخرى، ربط القطع في شكل متكامل، فكانت جهود البحث، تندفع، تتدفق، تتسارع، باحتمال وجود تفسير ما تحمله خلفها، وعندما اجتمعت الأربع عشرة قطعة بجوار بعضها بعضا في تشابك مذهل، لم تُثلج صدروهم، وزادت حدة الأسئلة في عيونهم، فوقف مدير المشروع ووجه كلامه إليهم :

ـ كل قطعة تحتاج إلى ترجمة دقيقة، فهذه المرحلة الأولى، في تشكيل تفسير كامل للقطع مجتمعة، وربما يظهر شيء آخر يغير طريقنا تماما.

شعر الباحثون بالتعب والإرهاق، غشاهم الليل، وشكّلت وجوههم ثلاثة أعوام من الحفر والبحث المضنى، وتجميع القطع وإعادة تجميعها لاحتمالات تفسير ما، آلاف المرات. واليوم وكأننا نبدأ من جديد، بمزيد من الغبار والنأي، وبارتباط مصمت بتتابع الفصول، وبدوران متواصل معها، أصبحنا مثل حفريات اكتشافنا، كل واحد منا يحمل طبقات من الأحداث وتقلبات الصحراء، المجد المنتظر، الحصول على كشف عظيم يغير مسار التاريخ، تضُمنا الحساسية المفرطة، الضنى، والجوع للكشف المنتظر، إذا شعر أحد منا بشيء أو خطرت له فكرة ما، نتداعى جمعيا بالنقاش وطرح مئات الإسئلة، للحصول على إجابة، أمل ما، فطبقات اليأس تتراكم على وجوهنا متشابهة، تذهب، تعود، وتبقى آثارها كاحتمال يمكن أن يتحقق، نحن بندول متأرجح بين جهتين، يدق ولا يعبر سوى عن مرور الزمن، لا يمسك بشيء، ويفضي إلى دوران مستمر، هل يوجد من يبحث ويلف في ساقية أبدية؟

دامت نظراتهم إلى القطع المجمعة، تموج في شريط دائم من البداية إلى هذه اللحظة، وأفق ممتد إلى ما لا نهاية، تصلبوا أمامها، بمشاعر مُضطَرِمة، وتعلقت قلوبهم بأمل، ربما يأتي قريبا، رفع كبيرهم عينيه لأعلى، وأعادها للقطع، ثم وجهها إليهم، في صوت جهوري يعيد تدفق الحياة في كل فريقه: إلى المعنى يا أصدقاء الصحراء، فنحن نريد أن نسحق تآكل الجحيم داخل صدورنا بالوصول لسر هذا الكشف العظيم.

رُوي لاحقا أن الباحثين السبعة، عثر عليهم مشوهين، والقطع الأثرية مفككة حولهم، لم يتم التعرف على أي منهم، فلم تكن ثمة جثة من الجثث فيها ما يشي بهويتها، فبخلاف الوجه المشوه، والرأس الحليق، كانت أيضا الأيدي والأرجل، حتى الأعضاء التناسلية أصابها التشويه، وصل التحقيق إلى طريق مسدود، أخذ المحققون تفويضا من ذويهم، ودُفنوا أمام المعبد تخليدا لذكراهم. وضعوا اسم كل باحث على شاهد من الشواهد كرمز لهم وللزمن، كتبوا سيرة كل منهم من ميلاده حتى ذهابه، سردوا رحلة تنقيبهم على لوح كبير أمام الشاهد الأوسط. وتَذْكُر آخر فقرة فيه، أن مقتلهم كان في فجر اليوم الذي حددوه لإطلاق الكشف، وفك رموزه للعالم أجمع، ولكن الإبحاث التي تمت لاحقا، لم تعثر على أي مخطوطات، أو آثار للباحثين تؤيد تلك الفقرة، حتى الصحف التي صدرت في صباح 1801 كان يستحوذ عليها الصخب، وصور الجنازة، ولكنها لم تتجاوز ذلك سوى بالإشارة إلى شيء غامض مستمر.

بعدها بوقت قليل، حُملت القطع المكتشفة إلى متحف التاريخ القديم في المدينة، ولكنها لم تدم ليلة واحدة، قيل إنها سُرقت، وانتفضت الشرطة، والمدينة بأكملها، ولكنهم في النهاية وجدوها في منطقة المعبد، وأثناء سير تحقيق النيابة، وبحدس عالم قرر ألا يكمل عمله، قال لهم رئيس التحقيق: «من الأفضل أن تبقى القطع كما هي في منطقة المعبد، بدون إبداء أي تفسير لذلك، فجريمة السرقة لم تتحقق» ورحل من أمامهم وعيونهم تلاحقه في جلال ورهبة، وقيل لاحقا إنه لم يشاهد في المدينة بعدها، وبقيت القطع كما هي ولم يتم نقلها إلى أي مكان آخر.

مرّ زمان على تلك الحادثة كما يذكر الكُتّاب، ولكن بقي المكان كما هو، والقطع الأربع عشرة باقية برونقها وغموضها، بُذلت كل الجهود للسيطرة على القطع على مدار أجيال متعاقبة، ولكن بعد التيقن من إنسداد الأفق، تكرار حوادث التشوه، الغياب، تم الاحتفاظ بها في أماكنها، وتمت إحاطة المنطقة بسور ضخم، وأصدر رئيس الدولة قرارا بمنع البحث أو الحفر فيها، وأُلحق القرار بنص لرئاسة الجامعات بأن تلك المنطقة خارج نطاق البحث والدراسة، للمخاطر المرتبطة بها، وأوصدت بالأبواب الحديدية، خوفا من مغامرات أخرى أو جهل لص.

برودة الأحداث بمرور الزمن جعلت منطقة الصفر من أفضل المزارات في العالم، وظل الجميع، يقف أمام الرموز المكتوبة على القطع، وعلى جدران المعبد، يتعجبون من جمالها، وغموضها، أو من كتبها؟ ولماذا؟ وعندما يبدأ المرشد في شرح طبيعة المنطقة يصاب السائلون بمبرر خلف استغلاق هذه الرموز، ويسير بهم في جنبات المكان، ويشرح عن شيء له معنى ولكنه غائب، وخوف طفيف، يغشى الجميع، تزداد حدته مع الاقتراب من شواهد الباحثين، يتعاقب الكل على الرحيل، ويزايلهم المجهول عن هذه المنطقة.

يحذر الرحالة العابرون في كتبهم «لا تنتظروا أي شيء في هذه المنطقة، والأفضل ألا تمروا عليها، فإن من يمر عليها سيصاب بدائها، ومن يصاب بدائها سيحيا باحثا مشوها، ولن يرسو مرة أخرى». في المجلد الثاني للرحالة والتر أدموند ذكر، «أن شساعة الغموض في هذه المنطقة أكبر من أن يحيط بها أحد، بل ربما تكون النهاية الحقيقية لمن يسعى ورائها، حتى حفرياتها التي تمت إعادة ترتيبها آلاف المرات واحتمالات التفسيرات المتعددة على مرّ السنين، لم تؤد إلا إلى فراغ مقيم».

وفيما نقل بخصوص إطلاق اسم منطقة الصفر عليها، ذكر عالم الآثار ميلر أراكون في مذكراته المترجمة مؤخرا إلى لغات عدة، «أن نتيجة توالي الباحثين والعلماء إلى هذه المنطقة، ومحاولاتهم الدؤوبة لفك رموزها، واستعصاء الوصول إلى تفسير، سيخيب أمل أى عالم، فالمنطقة ستستمر كالغيب ونهاية أي شيء». وتعقيبا على ذلك ذكر بيت شعر لأحد الشعراء لم يحدد من هو «حبك حبيبتى منطقة الصفر» واتخذت المنطقة هذا الاسم بمرور الذاكرين من الرحالة والمؤرخين والسياح، خاصة الشعراء، الذين وجدوا هذا البيت، أروع ما قيل في الحب بلا جدوى.

وذكر عالم الآثار سيمون دولافوان في الصفحات الأخيرة من سيرته الذاتية الصادرة قبل وفاته بقليل «إن منطقة الصفر، أقدم مناطق التاريخ التي لا يمكن الولوج إليها، بل يجب على الزائرين رؤيتها من بعيد، وحبذا لو من فوق، أو من خلال منظار من على قمة الجبل المقابل «فقد وثّق أنه اقترب منها في إحدى جولاته من خلال طائرة، وذكر أن أهم ما أذهله، أنه لم ير المعبد، وإنما رأى القطع المكتشفة تشكل دائرة مكتملة، عكس ما هو موجود أمام من يراها مباشرة، وأغرب ما ذكره أنه شاهد عينا مغلقة على شكل صفر في وسط الدائرة، وهو ما لم يستدل عليه لاحقا، ولكنه وطد الاسم بشكل أكبر وأصبح يليق بها.

وفى آخر الأفلام الوثائقية التي انطلقت على شاشة التلفزيون في عام 1976، نقل الفيلم مشاهد تحتوي لقطات مقتضبة عن منطقة الصفر، وتم التركيز على المعبد، ولم يأتى ذكر لشواهد الباحثين أو تاريخ المنطقة الملغز، وكان السرد المصاحب للفيلم لا يوحي بالخوف من تاريخها، أو استيعابه، أو حتى إدراك أهمية المنطقة، وخطورتها كما جاء في الآثار التي تحدثت عنها المخطوطات، وسير الرحالة، حتى صوت القارئ لنص الفيلم كان أكثر تفاؤلا، بأن المنطقة في حاجة إلى إعادة اكتشاف وجذب السياح، وكانت الموسيقى تتوزع في أركان المكان، ومع لقطات الكاميرا المتتابعة، تشكل صورة موحدة، شهية ومشوقة للباحثين وممولى التنقيب وطالبى المجد، دعوة لإعادة التنقيب. وجه الفيلم العيون مرة أخرى إلى منطقة الصفر، وأطلق القياد لفك شيفرتها، والبحث عن كشف عظيم، يحمل الخلود، ودائما ما سترى الباحثين وعلماء الآثار والممولين بكثرة على صفحات الجرائد، يصرحون ويباهون بالمبادرة، ولكن إلى الآن لم يعلن أحد بدأ عملية التنقيب من جديد، ولم تزل المنطقة قائمة تحيطها الرهبة، ويتطلع إليها الباحثون، ولكن أخبار الاقتراب منها في هذا الزمن لم يتم العثور على مخطوطها بعد.

 

  • كاتب مصري

إرسال تعليق

0 تعليقات