اشترك في النشرة البريدية

نازك الملائكة وإشكاليات الشعر الحر-

على الرغم من أن نازك الملائكة (1923- 2007) شاعرة في المقام الأول، وقاصَّةٌ صدرت لها مجموعة بعنوان «الشمس التي وراء القمة» 1997 وناقدةٌ صنَّفت عددًا من الكتب النقدية منها «الصومعة والشرفة الحمراء»، ومنها «قضايا الشعر المعاصر» 1962 و«سيكولوجية الشعر ومقالات أخرى» 1992، أما كتابها «قضايا الشعر المعاصر « الذي نشرت فصوله منجَّمةً في مجلة الآداب، فهو الكتابُ الأول الذي يتناول تناولا أكاديميًا ظاهرة الشعر الذي وصفتْهُ بنفسها بعبارة «الشعر الحرّ».
وعارضها في هذه التسمية غيرُ واحد، منهم جبرا إبراهيم جبرا، الذي رد عليها بمقال بعنوان: الشعر الحرُّ والفَهْمُ الخاطئ، ومنهم محمد النويهي الذي سماه الشعر المنطلق، ومنهم نعمان القاضي الذي سماه شعر التفعيلة، مشيرًا إلى استبدال التفعيلة الواحدة بالبحر العروضي.
بريقٌ خُلّب
ونازك الملائكة لا تقتصر في كتابها هذا على توضيح ما واجهَها من مشكلاتٍ عروضيَّة، فقد كشفَ كتابٌ جديدٌ صدر في عمان بعنوان «مفهوم الموسيقى الشعرية عند نازك الملائكة» لحنين إبراهيم معالي (2019) النقاب عن أن الشعراء، بتأثير من بريق الحرية المفاجئ، الذي أتاحتْهُ لهم وحدة التفعيلة، انفلتوا من عقال الضوابط المعيارية، والمقاييس الذوقية، فوجدنا بعْضَهُم – في رأي الملائكة – لا يلتزمُ بطولٍ معيَّنٍ للبيت الشعري، ولا بعَدَدٍ مقبول مناسب للتفعيلات، ويذهبُ بعضُهم لما هو أبعدُ من ذلك، فيتجاوز شرْطَ وَحْدة التفعيلة إلى الجمْع بين تفعيلةٍ وأخرى، في أداء يُسْفرُ عنْ نشازٍ في الإيقاع، ورتابةٍ ممْجوجَة في الموسيقى والوزْن. علاوةً على لجوء بعْضهم للانفلات من القافية، والتحرُّر من الفاصِلة الوزْنية في أواخر الأبيات، تحررًا يؤدّي إلى ما يُعرفُ بالقصيدة المدوَّرة، وهي أقربُ في رأيها إلى النثْر منها إلى الشعر.
حقيقةُ الشِعْر الحُرّ
فنازك الملائكة في كتابها هذا لا ترى في القصيدة الحرة شيئًا جديدًا عدا الظاهرة العروضيَّة، فهي تدَّعي في اقتباس ذكرته حنين أنَّ «الشعرَ الحرَّ ظاهرةٌ عروضيّة قبل كلِّ شيء». ومع ذلك لا تفتأُ تصرفُ الانتباهَ عن العروض إلى غيره. وهذا ينمّ عن أنَّ ما تقوله ليس دقيقًا؛ فهي تلوم الشعراء من أبناء جيلها لأنهم يربطون هذا التجديد بأمور أخرى. فهم يتحدَّثون عن الواقعية في الشعر، وعن أشياء أخرى كالنقادِ الذين لم تعْفِهمْ من هذا اللوم، كوْنَهُم لا يتحدثون عن التفعيلة إلا نادرًا. ولا يهتمّون بالجانب الموسيقي إلا قليلا. ويولون ما يسمّى بالرؤية، والصورة والأسطورة، جُلَّ عنايتهم واهتمامَهُم. وهذا في رأيها ينْبغي ألا يَشْغلَ الدارسَ، والناقد، عمّا في الشعر الحر من جوانبَ موسيقيَّة تغدو، في هذه الحال ثانويةً، مع أنها هيَ حقيقةُ الشِعْر الحرّ. وقد بيَّنت المؤلفةُ حنين معالي هذه الآراء، وعرضَتْ لها عرضًا سَلِسًا، شيِّقًا، لكنَّها لم تقفْ لديْها وِقْفةَ المؤيِّد، أو المعْترض المفنِّد. ولم تجادل الشاعرةَ الراحلةَ في هذا الرأي الذي تراهُ، ولا في الموقف الذي تتبنّاه. وهو رأيٌ لا ينمُّ على سَعةٍ في الأفُق، أو رغبة في فهم الشيء الواحدِ من جوانبَ شتّى، وزوايا عدَّة. وينبغي أنْ يُردَّ على الملائكة، ردًا غير ليّن، ولا هيّن، فالشَكْلُ العروضيُّ لا يوجدُ في فضاء منْفصلٍ عن المعْنى. ولذا ينْبغي على الدارسِ أن لا يمرَّ بهذا الموقِفْ مرورَ الكِرام. فالبِنْية العروضيَّة ليْسَتْ منفكَّةً عن المضمون، أو مستقلَّة عن المحتوى، وكأنَّ لموسيقى القصيدةِ، ومضمونها، طبيعتيْن تستقلُّ إحداهما عن الأخرى. وهي ـ أيْ نازك الملائِكَة – بهذا الرأي تضعُ كلاً من الرؤية والصورة والخيال، والأسْطورة والمفارقة وجمالياتِ القصيدة، وما فيها من ثراءٍ مجازيٍ واسْتعاريّ، ومن بناءٍ فنّي، في المنزلة التالية لمنزلة الوزْن والقافية، وهذا ضربٌ باطلٌ من الظنّ، ورأيٌ بعيدٌ جدًا عن الواقع، إذْ لو صحَّ ذلك لترتَّب عليهِ أنْ تعدَّ المنظوماتُ التعليميَّة كألفية ابنِ مالكِ من الشِعْر الجيِّد المتخيَّر، لأنَّ الأوزان فيها مطَّردةٌ على خيْر ما يكونُ الاطِّراد.
الشِعْرُ والنَثْر
وتعرضُ حنين في كتابها القيّم هذا لموقفِ الملائكةِ من «قصيدة النَثْر»، ولو أنَّنا لا نرتاحُ لهذا التعبير. فموقفُ صاحبة قضايا الشعر المعاصر من هذه القصيدة موقفٌ متشنِّج متوتّرٌ، يذكِّرنا بموقف العقَّاد من قصيدة التفعيلة الواحدة. فهيَ تصبُّ جلّ انتقاداتها، وفيضَ مآخذها، على هذا اللون، وعلى شعراء هذا الفنّ، وفي مقدِّمتِهمْ محمَّد الماغوط (1934- 2006) فقصيدتُهُ التي أوردتْ مقتطفاتٍ منْها « نثرٌ اعتيادي لا يختلفُ عن النثر في أيّ شيء» وهذا رأيٌ فيه من الخطَر، والخُطورَة، كالذي في الادِّعاء بأنَّ ما في كتاب «الحزنُ في ضوءِ القَمَر» للماغوط شعرٌ كغيره من الشعر المنظوم، المضبوط بالأوزان، المعقود بالقوافي. وحتى لا نُتّهمَ بالانحياز لأحَدِ الفريقيْن ضدّ الآخَر، لا بدَّ من الإشارة إلى أنّ منْ يكتبون قصيدة التفعيلة، أو البَحْر، إذا لجأوا لما يُسمى «قصيدةُ النَثْر» لأسبابٍ تقتضيها التجربة، فإنَّ المحصِّلة النهائيَّة لهذا، أنهم يقدمون لنا نصوصًا ليْسَتْ نثرًا عاديًا كأيِّ نَثْر. وإنما يقدِّمون لنا ضربًا من الشعر المُختلف، أيْ الشعر خارجَ العَروض poetry in prose. وقد يكونُ هذا المختلفُ رائعًا وجيدًا، وقدْ يكونُ سقيمًا لا قيمة لهُ، كالذي نقرؤُهُ هذه الأيام لكثير من أنْصافِ الموْهوبين. وهذا أيضًا ما يُقال في قصيدَةِ التفْعيلَة، وقصيدة البَحْر العروضي. فليس كلُّ ما هو موزون مقفَّى بالشعر المتخيَّر، الذي يُسْتحْسَن، فمنْهُ السمين، ومنه الكثير الغثّ الذي لا قيمة له، ولا مزيَّة فيه. تمامًا كما أنَّ كلَّ ما يُنْشر تحتَ مُسمَّى روايةٍ ليْسَ رواية بالفِعْل، وفقًا للمُصطلح، وإنما هو في كثيرٍ منْهُ (سواليفُ) لا علاقة لها بفنّ الرواية بالمعنى الذي يُجمعُ عليْهِ النُقادُ، وأهْلُ النظَر. ولا أهمية لظَفَرِ مثلِ هذهِ الأعْمال الباهتة البائِسَة بجوائز محلّية، أوْ خليجيَّة، أو حتى دوليَّة من العِيار الثقيل، ولا قيمة لما يُكتبُ عنْها، ويُنْشرُ، من مجاملاتٍ ليْست بشيءٍ إذا ووزنَتْ بالنَقْد الصحيح.
القصيدة المدوَّرة
ولنازك الملائكة رأيٌ في القصيدة المدوَّرة لا يقلُّ خطرًا وخَطَلاً، عن رأيها في قصيدة النثْر، فالتدوير مثْلَبَةٌ – في رأيها – ينْبَغي للشاعر أنْ لا يقعَ فيها، ونحنُ لا نرى في رأْيِها هذا رأيًا صائبًا، بل رأيًا يحتاج لإعادةِ النظر. فقد يكون التدويرُ مَنْقَبَة لا مثلبة إذا ظهَر في القصيدة لسبَبٍ تقتضيه طبيعةُ التجْربة، بشرط ألا يُسْرفَ الشاعرُ في التدْوير، لأنَّ الإسرافَ فيه ينْهك القارئ، ويُفقِدُهُ الإحساسَ بالنَغَم، ولهؤلاءِ الشعْراءِ الذين يسْرفون في التدوير أن يُنْصحوا بالقليل منه، والاجتزاءِ باليَسير، حفاظًا على النَغَم، وحرْصًا على الجرْس. فتراكمُ المجازات، والصُوَر، واطّرادُ الاسْتعاراتِ، لا يُغني – قطعًا – عن الجانب الصَوْتيّ المتْقَن، وعما يتطلبه من تناغيمَ، ومن نسق أغنّ، فهو الذي يجتذبُ القارئَ، والسامعَ، قبل العناصر الشعرية الأخرى.
نشوةُ الطرَب
ولا ريْبَ في أنَّ المؤلفةَ حنين معالي، قد برَعتْ في تتبُّع مواقفِ الملائكةِ منْ موسيقى الشِعْر، لا سيَّما في كتابها «الصومعَةُ والشُرْفةُ الحمْراءُ» عن الشاعر علي محمود طه (1901 ـ 1949) صاحب «الملاح التائه» و«أرواح شاردة» و«زهر وخَمْر» و«الشوق العائد»، وغيرها من دواوين استوحت منها الملائكةُ بعض المواقف التي صاغتْ منها مفاهيمَها لموسيقى الشِعْر.
فقد بَهَرَتْها في شعْرهِ تلك الغنائية العذبَة التي تهيْمنُ على ذائقةِ القارئ والسامع، فلا يملُّ الأخيرُ الإصغاءَ لصَوْت الشاعر، بل على العكس من ذلك، يطرَبُ لهُ طربًا شديدًا، وهذا ينْسحبُ على قصائد المناسباتِ مثْلما ينسحبُ على قصائده العاطفية والغزليَّة والتأمليَّة الأخْرى. كقصيدة «الجندول»، و«النهر الخالد» فهْوَ، في رأْيِها، عازفٌ بارعٌ على قيثارة اللُّغة، يُحسنُ التلاعُبَ بأوْتار الكلِماتِ، وتوْظيف الأصواتِ توظيفًا يُضفي على بعْضِ شعره رنَّة مُسْكرة، ونشوةً مصدرُها رقَّةُ الألفاظ، وهمْسُ الحروف. وهو لا يني يناسبُ بيْنَ الحروفِ والمواقِفِ، فالخشنُ من الألفاظِ للموْقف الخشن، والرقيق منها للموقفِ الهادئ الرخِيّ.
ومن الشعراء الذينَ رصَدَتْ المؤلفة موقفَ نازك من موسيقى شعرهم إيليا أبو ماضي. والواقعُ أنَّ شُعَراء المهْجر، الشمالي بصفَةٍ خاصَّة – باستثناءاتٍ نادرةٍ- اهتمّوا بالموسيقى، وربما كانتِ العُنصر البارزَ والأهمَّ، في شعرهم الذي لا يخلو من ركاكةٍ في الأسْلوبِ، وضعْفٍ في الصُوَر، وتصنُّعٍ في التراكيب.
وصفوة القوْل، وزبدةُ الحديث، هي أنّ كتابَ « مفهومُ الموسيقى الشعرية عند نازك الملائكة» لحنين معالي، على الرغم من أنَّه كتابٌ صغيرُ الحجْم (142 صفحة) إلا أنه عظيمُ القيمة، جمُّ الفائدة، أسْدَتْ فيه المؤلفةُ لموسيقى الشِعْر العربي ولعَروضِهِ، ولذكرى رائدَةٍ من روّادهِ، خدْمة جُلِّى، وَمَكْرُمةً كُبْرى، وَهذا حَسْبُه.
٭ ناقد من الأردن

إرسال تعليق

0 تعليقات