في ديوان «يقظة الصمت» تتخذُ القصيدةُ عند محمد بنيس سياقاً قوامُهُ «قصيدةُ النثر» بما اكتسبته من تراكمٍ بنيويٍ وتحولاتٍ في القالب، وبما تحتويهِ من انزياحٍ عن التقليد الشعري، لصالح التميّز الأسلوبي، وفق وصف مرشد الزبيدي، خاصةً أن بنيس أحد الذين يمزجون التنظير بالتطبيق، ومن ثمّ لا نرى قالباً مكرراً في سمةِ النثرية يترددُ في نصوصهِ، أو تركيزاً على الوزن والتفعيلة، وإنما تجاوزاً مستمراً، على نحو يغيّر في علاقة الدال بالمدلول، وعلاقة المعنى بالوزن، وعلاقة الشعرية بالنصية، بحيث لا تصبح الشعرية تابعةً لمعطياتِ الشكل الصوتي، أو النصي أو الوزن الإيقاعي، وإنما يصبح كلٌ من الشكل والوزن والإيقاع متولداً من الشعرية، وفقَ إحالاتِ الموضوع، ومن ثم فإن في محاولتنا تحليل ديوان «يقظة الصمت» وعيٌ بحجمِ الانفتاح الدلالي في الشعرية، ففي خلفيتها تقبع كل مؤلفات بنيس ـ الإبداعية والتنظيرية، وخبرته التراكمية، وإذا ما أضفنا إلى ذلك ما يقوله محمد عبد المطلب من أن «شعر الحداثة قد أفاد على مستوى الشكل البنائي من الفنون المجاورة له قولياً، مثل القصة والمسرحية، وهذه الإفادةُ تتمثلُ في استعارةِ أدواتِها الإنتاجية، مثلَ الحوار الداخلي والخارجي والسرد.نبدأ من عنونةِ الديوان، فنسجل أنها دالة مفارقة، تذكرنا هنا ما في قول سوزان برنار حول الجمع بين المتناقضات في القصيدة، فاليقظةُ والصمتُ كلاهما لا يجتمعان معا، فأحدهما ينفي الآخر، وهو ما يجعلنا نتساءل حول الدلالة الكامنة في مجمل اقتران اليقظة بالصمت، أو الصمت باليقظة، فنجد أنهما معاً يُحيلانِ إلى الفاعِل، الشخص الذي يقوم بفعل اليقظة ويقبع في الصمت، ولا يكون الإنسان صامتاً في حالة يقظته إلا إن كانَ منشغلاً في شيءٍ يحاولُ التركيز فيه، أو يحاول التربص أو اقتناص شيءٍ يخشى فواته، أو أن يكون كلامهُ كالعَدَم، أي مصاباً بفقدانِ القدرةِ على الكلام، فتصبح يقظته خاليةً من البُعدِ التأثيري، وعند مراجعة الديوان لا نجد العنوان يتكرر، فلا يحيلُ إلى قصيدةٍ بعينِها مثلمَا دأبَ البعضُ على تسميةِ الديوان بعنوان إحدى القصائد، وإنما نجد أن مفردةَ «يقظة» تنزاح ولا تظهر ثانية، في حين ترِدُ مفردةُ «الصمتِ» أكثرَ من مئةِ مرة في ثنايا الديوان، وهو ما يشير إلى ترجيحي لمعنى التأكيد على فقدان الفاعلية والتأثير للفاعل الذي هو الإنسان العربي، إنه أشبه بديوان رثاءٍ للحال العربية، والعنونة هنا تتحدث بلسانٍ أيديولوجيٍ على حدِ تعبيرِ محمد فكري الجزار، وظلال هذا الرثاء للذات الجماعية والفردية، تتوارى أو تبرز بدرجاتٍ متفاوتةٍ من قصيدة لأخرى.
وتبلغ قمة بروز الرثاء في قصيدة «أرضٌ بدماءٍ كثيرة» التي تحيل إلى غزة، في تاريخٍ مُحدّد، هو 14 مايو/أيار 2018، وسوف نتابع عملية توليد الدلالة وتغيير سياقات الدال والمدلول معاً، من أجلِ إنتاجِ علامةٍ لُغويةٍ ذاتِ مَرجعيةٍ شِعريةٍ تَتناصُ معَ المُعطى التاريخي الإنساني، حيث يقول في بدايتها:
« شبحٌ بعيدٌ. دخانٌ يتفرّقُ في الجهاتِ الأرْبع. أنباءٌ متقطّعةٌ. إنّهم هناكَ. فوْق الأرْضِ. ينقُلونَ عيُونَهم إلى الأرْضِ الممنُوعةِ عنْهم. إلى أرْضِهمْ. يمْشُونَ. منذُ أوّل الصباحِ لأجْل أن يقفُوا. فقط. لأجْل أن يقفُوا. هناكَ الأرْضُ. لا أرْضَ سواهَا. متى نشأتْ. لا أعرفُ. وهُمْ هُناكَ. أبناءُ فلسْطينَ في شَساعة الأرضِ كانوا. في أرْضِ كنْعانَ كانوا. مع الريحِ الزّرقاءِ كانوا».
نشعر هنا وكأننا إزاءَ رسمٍ مشهديٍ افتتاحي، يحددُ في الأفق ما سيأتي بعد ذلك، وتتنوع الافتتاحيةُ بينَ مستويين، مستوى المكان، ومستوى الفعل، فالمكان هو تلك الأرض التي يتم وصفها بأنها الممنوعةُ عنهم، وتتم استعارةُ مفارقةٍ مقلوبةٍ لقصة اليهود مع النبي موسى ، عندما حُرّمَت عليهم أرض فلسطين، وصارت ممنوعةً عليهِم، الآن هي محرمةٌ وممنوعةٌ على الفلسطينيينَ أنفسهم، أبناءِ الأرض الفعليين، وينتشرُ الدخانُ، ينتشرُ الخراب، والدمارُ، وعلى غرار صياغةِ الكتابِ المُقدّس، يتمُ التناصُ مع أسلوبِ الحكي التاريخي، فبدلاً من «كان» التي يستخدمُها الكتابُ المقدس في سفر التكوين، يستخدم بنيس صيغة «كانوا» ثم يبدأ بعد هذا التمهيد، الذي يشعل المخيلة لاستحضار أجواء الخراب والدمار، وبعد الحشدِ التصويري لهذا المنظر الشبيهِ بمنظرِ يوم الحشر، لمجموعة الفلسطينيين، الذين يمشون فقط من أجل أن يقفوا، وهذا الوقوف ممنوعٌ عليهم، بل الوصولُ ممنوعٌ عليهِم، ولا نجد تحليقاً أو تجنيحاً في استخدامِ اللغةِ، إلا النزرَ اليسيرَ في وصف عيون أبناء فلسطين بأن «عيونَهُم نشيد» وما غير ذلك فهو يعتمد على مخاطبة العقل، ثم من خلال هذه المخاطبة يتم استحضار المشاعر وتحريكها، وتحريك انفعالات المتلقي، أي أن الاستجابةَ تبدأُ عقليةً ثمَ تتحولُ لانفعاليةٍ، ثم ينتهي المقطع الأول إلى الإحالة لغزة، وكأن هناك من حفّز وعي المتلقي بشدةٍ فجأةً، لكي يستفيق من الضباب الذي بدأت به القصيدة، ليتنبه للواقع، وللحقيقة التالية:
«غزّةُ في فلسطـينَ.
فلسطـينُ فوقَ الأرْضْ»
تقول سيزا قاسم: «عندما نقول إن القارئ يفهم النص أو يتدبره، أو أنه يعرف معناه ماذا نعني؟ إن في هذه الإجابة ثلاثة أقوال الدلالة تنبع من المتكلم، والدلالة تنبع من القارئ، والدلالة تنبع من النص». ، هذه التوزيعية الثلاثية للدلالة يتم العمل عليها هنا بشكل مكثف، بحيث يتم توظيفها جميعا، لتصبح الدلالة نابعة من المعطى التاريخي، من الحدث الذي نقف أمامه فنشعر بالخذلان والخزي، يتم توليد معنى جديد، ودالة جديدة، من خلال غزة، وبالإشارة إلى مسيرات التنديد والاعتراض على نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، التي نظمها الفلسطينيون في 14 مايو/أيار 2018، وكانت ضحيتها وفاة 61 شخصا، وإصابة أكثر من 2400 جريح، وهو اليوم الأكثر دموية في تاريخ غزة منذ حرب 2014، ويتم تكريس هذا التاريخ وصنع علامة لغوية / شعورية خاصة منه، على النحو الذي يورده بنيس، وكأنه يقول لا تنسوا هذا التاريخ أبدا، فيكرره على النحو التالي:
« غزّة 14. 5. 2018. قتْلَى. غزّة 14. 5. 2018. قتْلَى. قتْلَى. غزّة 14. 5. 2018. قتْلَى. غزّة 14. 5. 2018. قتْلَى. غزّة 14. 5. 2018. قتْلَى.
لتتكرر كلمة غزة في هذا المقطع خمس عشرة مرة، وتتكرر كلمة قتلى 28 مرة، أي أن القتل ضعّف كلمة غزة، ويتكرر التاريخ أربع عشرة مرة ـ لاحظ أنه يوم 14 ـ وفي اعتقادي، أن كل هذا المقطع يقف بمفرده دالا ومدلولا كعلامة لغوية واحدة، تقول: لا تنسوا هذا التاريخ أبدا، ولا تسمحوا لشيء أن يحذفه من ذاكرتكم أبدا، فـ14 مايو 2018 يوم الاحتجاج على نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، هو يوم يرغب بنيس في أن يخلده في الذاكرة العربية، وبعد هذا التصعيد والتوتر في علاقة الدال بالمدلول، واستدعاء المخزون السياقي التاريخي في العلامة اللغوية، يعود الهدوء للقصائد، وكأننا نشهد حالة من خفض النغمة في العزف على المشاعر المجروحة، والكرامة المسلوبة، هنا يتم ترك المساحة للانفعالات لكي تهدأ حتى لا يتوقف القلب، ليعود شاعرنا إلى التعبير اللغوي المجنح في الحالة الوسيطة بين النثرية والشعرية، طارحا الأمر بشكل من السلاسة التعبيرية، يقول:
« قتلٌ يتواصلُ في غزةَ مُتّشحاً برمادٍ
لا تبلُغهُ الكلماتُ
هنالكَ
يفْترسُ الطغْيانُ ضحَاياهُ»
ثم تنتهي القصيدة المكَوَّنة من سبعة عشر مقطعا، بإعلان الحداد، والحداد هو الصمت، وهنا نعرف أن الصمت المقصود هو صمت العالم، وصمت العرب، وصمت الضمير الإنساني، عن القتل في غزة، عما حدث لهؤلاء البشر، وهنا ندرك أن الصمت هو صمت خزي، وصمت عار، وتكتسب العنونة معاني أخرى، من أن يقظة الصمت، قد تكون يقظته في الضمير، في تأريق ضمير الساكتين عليه، هذه الانهزامية والتأنيب الشديد للضمير ـ الجمعي الفردي، هي الخلفية التي تتحرك من خلالها شاعرية الديوان، ومخاطبة القارئ هنا هي مخاطبة تختزن سياقا تاريخيا واجتماعيا وتلتحم بصورة مباشرة مع المسكوت عنه تاريخيا، لنصبح وكأننا أمام حالة من حالات نضج تكوين الضمير الداخلي.
لا عجب في أن تأتي القصائد بعد هذه القصيدة سريعة، وخفيفة ـ في ضغطها الشعوري ـ على المتلقي، وكأننا إزاء شاعرنا قد أفرغ دمعه في قصيدته عن غزة، فاستراح قليلا، أو ربما خفّ عن كاهله ضغط الوفاء للراحلين في غزة، وتخليد ذكرى فجيعتهم في شعره؛ فتأتي القصائد بعدها على نحو مغاير في الدلالة وتوليدها، معتمدة على المخاطبة التصويرية، وبناء المعنى من صورة كلية في نفسه المتلقي، على غرار ما نجد في القصيدة التي تليــــها مباشرة، والمعنونة بـ«لا يغيب» فيقول:
«دائماً
يبدأ الكلامُ
من جهةٍ أُخْرَى
تسْتيْقظُ
منْ ضوءٍ يشفُّ
ويرتفعُ
شبْهُ عاصفةٍ
لها قوّةُ الفيَضانِ
في
لحْظةٍ أنْشأْتَها بيديْكَ
قيلَ سـرٌّ يطْوي تحْت إبْطهِ الأرْضَ
ثمّ يمْضي
سيّـداً»
يمكن النظر لحالة سرعة الإيقاع المعنوي، وقِصَر الأسطر الشعرية، وخفوت المقاطع، إلى أننا أمام حالة من حالات التلاعب بزمن التلقي الشعري، فسيشعر القارئ هنا، أن القصائد السريعة، والرتم الإيقاعي المعنوي مع السلاسة في وصول المعنى، أن هناك حالة من حالات إبطاء الزمن كانت مع القصيدة المخصصة لغزة، وكأنها هي حجر الزاوية التي انطلق منها الديوان، ثم بنيت عليه باقي القصـــــائد، ولا عجب أن تكون القصيدة متوسطة تقريبا للديوان، وما قبلها وما بعدها يتراوح بين التوسط والقصر في طول المقطع الشعري، وفي بناء الصور التراكبية، لكن لا شك في أنه يصعب تمثل الديوان في دفقته الشعورية إلا بمعنى متكامل من النظرة الكلية للقصائد مع بعضها بعضا، فأي اقتطاع لقصيدة من سياق باقي القصائد، لن يفضي لمعنى التلقي نفسه، ولا التركيز على المعاني نفسه اللذين رغب محمد بنيس في إيصالها، لنصبح أمام نوع جديد من التوظيف البنائي في ترابط القصائد، وترتيبها مع بعضها بعضا، وفي التلاعب بإيقاع وسرعة رسم الصورة، وبطء أو تسريع المشهد، وتوظيف موقع القصيدة بالنسبة لباقي قصائد الديوان، وهذا من قبيل التأكيد على حداثته المستمرة، والتجريب والمغامرة في تقديم معنى متوهج دائما بالمشاعر المحمولة من بوح الشاعر إلى أفق المتلقي.
٭ شاعر وأكاديمي مصري
https://ift.tt/2ze9hji
0 تعليقات