اشترك في النشرة البريدية

أنشودة العدم أحمد برقاوي*

 


ولدنا معاً

نحن والموت ولدنا معاً،

عشش العدم في لحظة انفجار الحياة

في بذرة الحب الأولى السعيدة على جدار الرحم

ويولد معنا

لا قبل ولا بعد

يختبئ في زغردة الفرح،

في قهقهة السعادة يسكن

وفي دمعة الحزن يقيم

نتأفف من المهزلة كأنها لم تكن:

لم نكن فكنا

وكنا كي لا نكون

سفر الوجود والعدم نحن

قرأ الأولون صفحاته والآخرون

توأمان من حبل السرة

العدم المضمر يظهر

وقالها فيلسوف الغابة السوداء

«العدم موجود»

زمان البدء

أوان النهايات

في وئام وشجار

يتأمل الفيلسوف

الظن في الحكمة

كي يكتنه الأشياء وما لا يُرى

ويعلن بلا خوف

الموت هو الشر المطلق

ويكتب الشاعر آلامه وأوهامه المشتهاة

وينادي:

«فاغنم من الحاضر لذاته»

ويتساءل حزين:

إذا كان موت الظالم رحمةً

فلماذا يرحل النبيل !

أمل يمنحنا حب البقاء

وينعدم!

ونهر الفناء يجري ويجري بِنَا

يلقينا في بحر الظلام

يصرخ الوجودي محب الحياة

أجسادنا يا أرحام العدم

من سواكِ؟

أيها العدم يا مصب أرواحنا الأخير

ما الذي حببك بأجسادنا؟

ألتعلن على هذه الأرض حكمة الرماد !

أيتها الأرض

يا ابنة النار

لمَ لم تمنحي بنيك روحك الأبدية؟

لماذا انطفأ جمرك الوقاد

وتصرخ آلهة السخريات:

أيتها الأرض

ما الذي أغراك بالحياة يا أم الحياة !

أأنت واحة أم بيت عزاء؟

عمياء أنت

لا تسألين ولا تُسألين

تدوسين على الأرواح متى شئتِ

ومتى شاءت الأحوال

ويجيب القلق المعنى:

يا صاحبيّ سوس الفناء لا يُرى

يَحتجب وراء بكاء المولود

ومتعة الأم

ما الذي يبكيك يا أعين الحزانى

والثكالى

والأرامل واليتامى

والصحبة والعاشقين؟

أهو الموت قبل الأوان

أم الموت بعد الأوان

أم الموت عند الأوان

وماذا يعني الأوان؟

ما أحلاك أيتها الأرض

وما أمتع مباهجك الغنية

ما أقساك أيتها الأرض أيضاً

أحياة ونبع فجائع!

ما أظلمك أيتها الأرض

أرحم وسم فناء !

العدم الذي عاش في قلب الحي

مل صحبة الحياة

وكسلطان شرقي أشر

انفرد بالجسد

وطار به إلى الفناء المطلق

الجسد الذي ضج بالحياة

غاب الغيبة الأخيرة

بكل ما يحمل من أسفار الفؤاد

وأسرار العقل

وأغوار النفس

وحب الحياة

الموت ليس ضيفاً ثقيل الظل

الحي هو الضيف الذي ينسى آداب الضيافة

ينسى بأنه الميت الممكن

ولا يتذكر إلا موت الآخر

يودع الآخر الذي غادر صحبة الموت

وصار موتاً محضاً

الأموات يودعون الأموات

والوداع هو الوداع

سواء كان الوداع إلى قبر زخرفته النقود

أو إلى قبر في الفلاة

سيان إن شيعك الميتون

على أنغام النشيد

أو شيعوك صامتين

سيان إن كان نعيك

ملصقاً مزدانًا بأبدع الرايات

أو مروساً بآيات وآيات

أو صليب

الموت في مهج الأنسان صور شتى

موت يظل جرحاً عميقا يصدّع الأكباد

وموت يٌرقّص الحاقدَ تشفياً بالفناء

الموت هو الموت

ولكن لا تقلْ لي: العيشُ هو العيشُ

والأحلامُ هي الأحلامُ

والنفوس هي النفوس

فالروح على هذه الأرض تجري

وما كان الجسد بيتاً لإقامة الروح

لا قسمة إلا في الوهم

الكائن واحد

واحد في الهم والعشق

في الحزن والفرح

في الحقد والقتل

الموت المشهد الأخير في الملهاة

الآخر الذي قضى

يستقر في المهج الحزينة

ويدخل دائرة اللامعقول

وحين يتمايل البيت الخشبي

فوق الأكف

يكون العبث يمشي وراء الجنازة

دون أن يكترث بالسؤال

أنبيل هذا اللامعنى أم وضيع

فليس للامعنى صفات

المشيعون الذين كانوا لتوهم حزانى

أو يصطنعون الحزن

يعودون إلى معانيهم

وأردية كينونتهم

ويرمون وراء ظهورهم اللامعنى

الذي كان قد شيع مثلهم

آخره

قصيرة هي لحظة القلق الوجودي

أيها الشاعر الفيلسوف

عبثاً تذكر الأحياء الأموات

بالمصير

عبثاً تجعلهم يبتسمون أمام الموت

ابتسامة الساخر المُعنى

فحب البقاء لا يبلى

 

  • أكاديمي فلسطيني

إرسال تعليق

0 تعليقات