
على أهميته كحدث سياسي فإنه لا شيء جديد يذكر بشأن اجتماع العشاء الأخير الذي جمع كلا من رئيس الحكومة الياس الفخفاخ ورئيس مجلس نواب الشعب راشد الغنوشي بدعوة من رئيس الجمهورية.
اجتماع العشاء احاطته القراءات السياسية بالكثير من التفاؤل والانتظارات سيما وأنه يأتي في توقيت استثنائي من حيث الارتفاع الكبير لمنسوب العنف اللفظي والخلافات داخل البرلمان والارتباك الواضح للحكومة والصمت المريب لرئاسة الجمهورية إزاء الدعوات القاضية بالاطاحة بالحكومة والبرلمان لفائدة قرطاج والاعتداءات المتكررة على رموز الدولة ومؤسساتها.
عكس التوقعات
وإذ خرج أكثر المتفائلين بوصف هذا اللقاء بالهام فإن الوقائع عكس ذلك تماما وقد ترجمتها بالدرجة الأولى غياب أي بلاغ رسمي عن اللقاء حيث لم تصدر صفحة رئاسة الجمهورية اي بلاغ في هذا السياق وهي التي احترفت نقل سكنات وتحركات ولقاءات فخامته لتسكت هذه المرة وفي هذه الظروف المتشابكة.
كما غاب توصيف الاجتماع عن الصفحة الرسمية للبرلمان على اعتبار أن راشد الغنوشي كان حاضرا بصفته رئيسا لمجلس باردو، ولم توشح صور عشاء الرؤساء الثلاثة الصفحة الرسمية لحركة النهضة او راشد الغنوشي.
اما بالنسبة لصفحة الياس الفخفاخ على التويتر والفايسبوك فقد خلتا من الإشارة لهذا اللقاء الذي كان بمثابة الحلقة الاخيرة من مسلسل الخلافات بين مؤسسات الحكم الثلاثة عند الكثير من المتابعين للشأن العام.
وبعيدا عن الصيد في المياه الراكدة، فإن ركود العلاقة بين الرؤساء الثلاثة وفتورها تأكد الآن بما لا يدع مجالا للشك وذلك إذا ما نظرنا إلى ردود الفعل التي تلت اجتماع الثامن عشر من رمضان.
النهضة تقطع الطريق
فقد أصدرت النهضة بلاغا ممضى من قبل رئيس الحركة الغنوشي بعد أقل من 24 ساعة من اللقاء الثلاثي، حيث نقلت فيه الحركة ما يدور داخل اروقة مجلس نواب الشعب من تحركات بغاية تشكيل كتلة نيابية جديدة، وتغذية الانشقاقات في بعض الكتل النيابية.
وعبرت النهضة في هذا السياق عن رفضها التام لمثل هذه المساعي التي ليس من شأنها غير تغذية المزيد من الاحتقان السياسي والتمزق والشتات بينما البلاد احوج ما تكون الى التوافق وجمع الكلمة لتأكيد النجاح في الحرب على الوباء والفقر.
كما أكدت ان نجاح الحكومة في هذه الحرب رهين نجاحها في بناء علاقات ثقة مع الجميع والاتجاه الى توافق حكومي وبرلماني جامع حول برنامج وطني لا يقصي احدا لمروة ثقتها في قيام الفخفاخ رئيس الحكومة وكل من يهمه الامر بما يتعين للتصدي لهذه التصرفات غير المقبولة.
ويأتي هذا البلاغ بعد ساعات قليلة من نهاية اجتماع الروساء الثلاثة والاكيد أن ردة فعل النهضة لم يكن لتجرأ على هكذا فعل لولا ما لمسته من محاولة لاستعادة الفخفاخ لتجربة يوسف الشاهد حين دخل باردو من بوابة انشقاقات الأحزاب وما حصل من تهرئة لكتلها النيابية التي سارعت للخروج بالالتحاق بتجربة الشاهد الحزبية.
كتلة وازنة
ويبدو واضحا أنها خطوة أقلقت الحركة التي تعيش تحت وقع ضغط شركائها في الائتلاف بغاية تقليم اظافرها والحد من سطوتها على الحياة السياسية بخلق تعديل من داخل البرلمان عبر كتلة وازنة عمل مستشار للفخفاخ جوهر بن مبارك على خوض النقاشات فيها.
ومن الواضح أن لقاء الروساء الثلاثة الأخير لم يكن باللقاء الجيد على اعتبار أن الرئاسة لم تصدر مثلا بيان إدانة في حق التحركات التي وصفت بالمشبوهة والتي تقودها صفحات ممولة في إطار الضغط وتحشيد الشارع ضد البرلمان والنواب حيث ان راشد الغنوشي لن يترك الفرصة لتمر دون خوض الحديث في هذا الموضوع بغاية اقتلاع موقف رئاسي إزاء التحركات خاصة وأن صمت الرئاسة دفع بالبعض إلى القول بمباركة ساكن قرطاج لهذه التحركات التي تصب في حسابه الخاص واسهمت في الترفيع من اسهمه لدى "الثوار الجدد" على اعتبار تطابق الأهداف بينهم وبين سعيد والداعية لاختصار مبدأ (3×1 اي الرؤساء الثلاثة) الى رئيس واحد ذو صلاحيات متعددة وهو ما يتعارض مع النظام السياسي القائم الذي يقسم الحكم بين الرئيس ورئيس الحكومة والبرلمان.
وتأكد مسعى الرئيس أكثر مع ما أتاه في جهة قبلي من "تحريض" على البرلمان على حد وصف النائب سيد فرجاني الذي توجه برسالة شديدة اللهجة لقيس سعيد وهو ما فتح بوابة التأويل أكثر مع إقرار الرئيس برفضه لتحوير النظام الداخلي للبرلمان والذي يمنع كل أشكال السياحة الحزبية.
سعيد يعلم تحركات الكتلة الجديدة
موقف قيس سعيد "الرئيس" تضاربت مصلحيا مع موقف قيس سعيد "الاستاذ" من مسألة السياحة الحزبية على اعتبار أن ما يقوم به الفخفاخ يصب بالضرورة في مصلحة الرئيس.
فتكوين كتلة جديدة وقوية من شأنه أن يقلل من تأثير الاغلبية البرلمانية التي تشكل النهضة وائتلاف الكرامة وقلب تونس عمودها الفقري ويمكن اللرئيس والفخفاخ معا من فرض القوانين والمشاريع دون المرور بالنهضة وتاثيراتها.
فقبل الوصول إلى الرئاسة اعتبر قيس سعيّد في تصريح التلفزي على قناة نسمة " أنّ السياحة الحزبية ظاهرة سلبيّة وغير أخلاقيّة وأنّ تغيّر انتماءات النواب بعد انتخابهم وبروز تحالفات وكتل جديدة غير منتخبة.. داخل مجلس نواب الشعب.. هو التفاف على إرادة الناخب ومخالفة لارادته".
بيد أن هذا الموقف سرعان ما تغير عند الرئيس حين شكك في محاولة تنقيح النظام الداخلي لمنع السياحة الحزبيّة معتبرا ذلك "خرقا جسيما للدستور وأنّه مرض دستوري وسياسية أخطر من هذه الجائحة التي انتشرت بكلّ العالم" .
هكذا موقف يؤكد أن أزمة الحكم متواصلة وأن لقاء العشاء لم يكن سوى مدخل لاعلان الازمة ببعديها السياسي والدستوري فغياب المحكمة الدستورية سيفتح أبواب الجحيم السياسي في وجه الجميع في وقت يناشد فيه التونسي الاستقرار وتجاوز محنته الاجتماعية والاقتصادية.
0 تعليقات