اشترك في النشرة البريدية

وداعا أمحمد خداد، وجه آخر للرثاء


إنا لله وإنا إليه راجعون، لا نقول في مصائبنا إلا ما يرضي ربنا، رحم الله الفقيد أمحمد خداد وتولاه بقربه وشمله بعطفه.
رحل الفقيد روحا إلى من أعطاها وهو أولى بها، ورحل جسدا إلى التراب التي هي مآل كل من عليها، لكنه بقي مع الشعب الصحراوي حيا لايموت شأن الكثيرين من أمثاله ممن منحوا أنفسهم وحياتهم للشعب والقضية فهؤلاء خلدوا أنفسهم بأفعالهم وبما منحوه لأمتهم، وتاريخهم يكافئهم بأن يبقوا شعاعا منيرا في الذاكرة الجماعية.
لن أتناول في هذا المقام مناقب المرحوم وحسن صفاته وأفعاله ومؤهلاته فقد كفانيها الشعب الصحراوي بمختلف أطيافه، وساعد في ذكرها من عرفوا المرحوم من شتى بقاع العالم، يكفيه رحمه الله بكاء اللاجيئات وأنين اليتامى ودعاء المسنين في غياهب الظلام، والرسائل وبرقيات التعازي التي تهاطلت على الشعب الصحراوي ومنه تمجيدا له ولمآثره.
وهنا أرى من الضروري أن أشير (مع أنه لايكفي) إلى أن المرحوم من قلائل النخبة الصحراوية ممن جسدوا فعلا وصدقا أحد أهم شعارات الجبهة التي تفرز الصالح من الطالح، وهو " الشعار والممارسة هما اللذان يحددان هوية الفرد". وبهذا يكون تولاه الله بعفوه قد حدد من هو ومن يكون، وبهذا بنى لنفسه مسكنا دافئا مريحا في نفوس كل الصحراويين وغيرهم. كان شعاره من سماء الجنة وممارسته من عمق أوديتها، أما بعض الرفاق فكان الشعار من صرخات إبليس والممارسة من سعير جهنم.  
كان أول لقاء جمعني بالمرحوم امحمد خداد في يونيو 1991 أثناء المؤتمر الشعبي العام الثامن، وكنت حينها شابا يافعا قادما من الناحية العسكرية الثانية، مملوءا بالحياة والأمل والطيش الثوري، كان رحمه الله ضمن رئاسة المؤتمر (ربما ترأسه/ لاأذكر) وبعد نهاية إحدى الجلسات ذهبت لمقابلته في رواق من أروقة قاعة المؤتمر، صافحني بحرارة وإبتسامة دافئة مرحبة قليل من يمتلكها من رفاقه، قلت له بأنه لدي مقترح يتعلق بجلسات النقاش، وأستمع رحمه الله بهدوء لكل ما قلته له. ذهبت وأنشغلت مع رفاقي من الناحية بمناقشة مجريات المؤتمر، وأخبرتهم بلقائي به رحمه الله وبمقترحي الذي قدمته له، وأختلفت آراءنا بين من يقول أن المقترح سيذهب مع الريح ومن يقول أنه سيعمل به، شخصيا كان أملي كبير في أنه سيعلن عنه في القاعة ولا أدري في الواقع على ماذا بنيت هذا الأمل. وتفاجأنا جميعا بصوته المحبب وهو يقول أنه تلقى مقترحا بناءا من أحد أشبال الثورة من الجيش يفيد في التعاطي مع جلسات الحدث الوطني.
الحادثة بذاتها بسيطة، لكنها بالنسبة لمقاتل يافع كانت دافعا قويا ومحفزا متينا عزز القناعة بالثورة ومتانتها وحضنها لأبناءها وكان لها دور كبير في بناء التركيبة النفسية لي وللكثيرين من جيلي. رحمه الله وغطاه بعطفه وشمله بحلمه.
بعد تلك الحادثة بأكثر من عشرين سنة، تعمقت معرفتي بالمرحوم أثناء عملي في مؤسسات الدولة الصحراوية، الأمر الذي سمح لي بلقاءه مرات عديدة ومتكررة وعن قرب وبشكل مباشر، وعرفت فيه ما عرفه فيه كل الشعب الصحراوي من روح طيبة وأبوة ناصحة وإبتسامة دائمة، وإستعداد للمساعدة وتقديم العون بكل أريحية. وقلما يمر لقاء دون أن استشيره في شئ أو يقدم هو وسع الله عليه نصيحة أو معلومة مفيدة.
الوجه الآخر للرثاء 
من العشرة التي جمعتني به شمله الله بعنايته، كنت كثيرا ما أشعر بأنه غير راض عن الكثير من رفاق الدرب - وهذا إستنتاج شخصي لاعلاقة له بالمرحوم - فكثيرا ما تجهم عندما أسأله عن أحدهم أو تناولت فكرة تتعلق بسيرة عرجاء غير لائقة لبعض منهم، فقد كان من البساطة بحيث لاتحتاج للجرأة كي تسأل أو تتاول معه موضوع مهما كان. سألته مرة بكثير من الوضوح أثناء التحضير لفعالية وطنية هامة:
- لماذا يواصل مركز القرار في الجبهة التغاضي عن بعض الإطارات ممن ضرهم أكثر من نفعهم؟؟؟؟
كان جوابه عليه عفو الله هادئا رزينا، إذ قال:
- أنت بالتأكيد تعرف مقولة وينستون تشرشل :" لن تصل أبدا إلى وجهتك إذا توقفت لتلقي حجر على كل كلب ينبح"
- نعم أعرفها.
- إذا إستمر وواصل المسيرة فالهدف أسمى من نباح الكلاب.
ذات مرة جمعني به لقاء إجتماعي، مع مجموعة من الأصدقاء والأحبة في الله، كان القيادي الوحيد بيننا وأكبرنا سنا، وأثناء النقاشات التي غالبا تطبع مثل هذه اللقاءات عبر غفر الله ذنوبه عن فرحته بكثرة الشباب في مقاعد البرلمان ومشاركته غير الكافية – حسب تعبيره – للعمل في مؤسسات الدولة، وقال بالحرف: " ينبغي على الشباب بذل المزيد من الجهد ليفرض نفسه على الساحة الوطنية، فالوصول إلى مراتب متقدمة في الحركة والدولة ليس سهلا ويجب إفتكاكه بالحضور والفعالية وفرض الذات والمؤهلات....."
هكذا كان رحمه الله:
- كان أثناء المؤتمرات والفعاليات الوطنية يسهر على تحضير البيانات والرسائل بينما يسهر بعض الرفاق على تمزيق المجتمع بنتانة القبلية، ومع ذلك يختاره الشعب إحتراما ويتركهم لممارساتهم العفنة... 
- كان في الوقت الذي يستهلكه الزمن مرافعة في المحافل الدولية يجتمع بعض الرفاق لتفريق المجتمع وتدميره مما يؤثر سلبا على كل واجهات النضال، ومع ذلك هو يسكن القلوب وهم يسكنون المستنقع العفن من تاريخ الشعب.... 
- كان يسعى جاهدا لتصحيح الطريق للقبليين والانتهازيين المتعفنين من خلال العمل بصمت والتغاضي عن ما ليس فيه خير، إلا أن البعض يستمر في لوك نزق القبلية والانتهازية والفتك بمقومات القضية.... ويخلد المرحوم في القلوب ويتنتن الآخرون في ما أختاروه لأنفسهم.....
- كان غفر الله له يستثمر في مؤسسته وفي الشعب الصحراوي ويستثمر الرفاق في القبلية ويبعثرون أموال الشعب في الصيدليات في أمريكا اللاتينية والعقارات ومحطات البنزين في موريتانيا والمساكن في أوروبا وقطعان الإبل في الأراضي المحررة وفقط لمنفعتهم الذاتية .... والنتيجة أنه ينال رضا الله ورضا الشعب ويقبع الإنتهازيين من رفاقه في مزبلة التاريخ. " ربما أستكانوا لإعتقادهم أن عين الشعب لا ترى لكنهم غفلوا ونسوا أن عين الله ترى".
- يشهد الجميع للمرحوم بأنه لم يكن يوما جزءا من اللعب بالنار الذي يلعبه الرفاق من خلال التجمعات القبلية عند كل حدث وطني بغير حياء وبمنتهى العهر السياسي وللأسف يقفون بكل خزي على المنابر ليدافعوا عن وحدة وطنية كانت لتسلم وتتقوى لو نجت من فعائلهم، ويستمر المرحوم وأمثاله في تقويتها بالعمل الدؤوب والصمت الحكيم.
- كان غفر الله له تستهلكه القضية والتفاني، وتذيبه يوما تلو الآخر، بينما البعض من الرفاق يستهلك القضية ويلتهم نتائجها ويتاجر بها لمنافع فردانية زائلة...... ودوما يخلد من يخدم الغير ويتعفن من يخدم نفسه. 
ربما سأتجاوز حد اللباقة إذا رخوت للقلم المداد، ولكني أرى من الضروري الإشارة إلى أن بعض الرفاق كان حري به لو أنه حاول أن يكون مثل المرحوم أمحمد خداد (وواعرة) بدل مغازلة الشعب بالكلمات الزائفة التي ما أن يجف حبرها حتى يعودون إلى ممارسة أبشع ما تنبذه قيم ومبادئ الجبهة وهو القبلية، والإستمرار في طعنه في الظهر هو وغيره من الشهداء عليهم رحمة الله، وكان من الحكمة لو عملوا بالقول الحكيم: "إذا لم تناصر الحق فلا تصفق للباطل"، أو الإستنارة بالقول:" إذا لم تعمل بجد فلا تضع العراقيل في طريق من يعمل".
آسف أيها الأب الرفيق المرحوم على هذه الواجهة من الرثاء التي أنعاك بها، لكنني في أعماقي أعلم أنك لطالما تمنيت أن يكونوا مثلك أو يموتوا وهم يحاولون. أدعو الله لك بالرحمة والغفران والجنة والقرب من الله.
حمادي البشير     
أبريل 2020

إرسال تعليق

0 تعليقات