كيف يمكن سرد الفظاعة حين يكون مرتكبوها حكّام بلدٍ يُدار كل شيء فيه بالسرّ والخديعة والعنف، كما هو الحال في الجزائر منذ فترة طويلة؟ الجواب يقدّمه موظّف
سابق كبير في الحكومة الجزائرية في رواية بوليسية وقّعها باسم مستعار هو عميد لارتان، خوفا من أي اعتداء قد يتعرض له، وصدرت في باريس عن دار "لو ميتيلييه" بعنوان "تحليق الصقر الأخضر"، حتى أن دار النشر الفرنسية لم توزع له اي صورة شخصية عملٌ رائع على أكثر من صعيد صدرت طبعته الثانية حديثاً، بعد نفاد نُسَخه، ويستحقّ أن ننفض الغبار عنه اليوم نظراً إلى قيمته الأدبية الأكيدة، وأيضاً لأن موضوعه الرئيس لم يفقد شيئاً من راهنيته: فساد حكّامنا وعدم توانيهم عن استخدام جميع الوسائل لبلوغ مآربهم.
سابق كبير في الحكومة الجزائرية في رواية بوليسية وقّعها باسم مستعار هو عميد لارتان، خوفا من أي اعتداء قد يتعرض له، وصدرت في باريس عن دار "لو ميتيلييه" بعنوان "تحليق الصقر الأخضر"، حتى أن دار النشر الفرنسية لم توزع له اي صورة شخصية عملٌ رائع على أكثر من صعيد صدرت طبعته الثانية حديثاً، بعد نفاد نُسَخه، ويستحقّ أن ننفض الغبار عنه اليوم نظراً إلى قيمته الأدبية الأكيدة، وأيضاً لأن موضوعه الرئيس لم يفقد شيئاً من راهنيته: فساد حكّامنا وعدم توانيهم عن استخدام جميع الوسائل لبلوغ مآربهم.
وفعلاً، يستعيد "لارتان" في هذه الرواية الموثَّقة قضية الفساد الشهيرة التي تورّط فيها أرفع المسؤولين السياسيين الجزائريين في نهاية التسعينيات، لكن لم يُحاكم فيها سوى رفيق خليفة، رجل الأعمال الذي تمكّن في ظروفٍ مشبوهة من تأسيس أمبراطورية مالية شملت مصرفاً وشركة طيران وشركة تصدير أدوية وقناة تلفزيونية وأملاكاً عقارية لا تحصى...، قبل أن تنهار بعد سنوات قليلة حارِمةً آلاف الجزائريين من مدخّراتهم.
أحداث الرواية تنطلق عام 1998، أي في الفترة التي كانت الجزائر تخرج فيها بصعوبة من حقبة العنف اليومي للجماعات الأصولية المسلحة والعسكر. وتستحضر "الصقر الأخضر" في عنوانها ببداهة "النسر الأزرق" الذي كان شعار "الخطوط الجوّية". أما بطلها، الشاب علمان مقدّم، فيشكّل بورتريه واقعياً ساخراً لرفيق خليفة الذي يظهر في الرواية على حقيقته، أي كشخصية تلمع بتباهيها بالثراء أكثر منه بذكائها، وتغذّي حلماً ساذجاً في تأسيس مصرف خاص وشركة طيران من أجل التمكّن من معاشرة نجوم السينما وأثرياء العالم.
المشكلة أن علمان لا يملك المال الضروري لتحقيق حلمه. لكن لحسن حظّه، يلحظ الجنرالات المتربّعون على السلطة في بلده أهمية مثل هذا المشروع لتحسين صورة الجزائر في الخارج، ولملء جيوبهم في آنٍ واحد، وفي مقدمّهم الجنرال المتقاعد لمّين بوترامين، الذي يستحضر بنفوذه وطبيعة شخصيته الجنرال العربي بلخير، صاحب القرار السياسي في التسعينات وصانع الرؤساء. هدف بوترامين؟ تأسيس "أوّل إمبراطورية جزائرية خاصة" تسمح في تأمين ديمومة النظام السياسي المفترِس الذي أسّسته حفنة من كبار الضباط مباشرةً بعد الاستقلال وبقي مستمرّاً مذّاك. ولبلوغ هدفه وتمويل هذا المشروع، لن يتوانى عن "شفط" الأموال الموجودة في صندوق التقاعد ومؤسسات حكومية كبرى أخرى عبر "إفهام" مديري هذه المؤسسات بـ "واجب" تحويل ما تملكه من سيولة إلى "مصرف خليفة".
السجن او الفرار
لكن لا تظنَّن أن الأمر بهذه السهولة. إذ يجب قبل أي شيء "إقناع" بعض الموظّفين الحكوميين الكبار الذي ما زالوا يحترمون القوانين أو لا يفهمون مدى نفعية هذا المشروع. ولتحقيق ذلك، الحجج التي ستُستخدَم عديدة ومختلفة: التهديد، الخيانة، التشهير، العنف الذي غالباً ما تلجأ السلطات لممارسته إلى عناصر "جهادية" تم تدجينها... حُجَج تضع معارضي المصرف الجديد وتطلّعات صاحبه أمام واحد من هذه الخيارات الثلاثة: الموت، السجن أو الفرار من البلاد.
باختصار، "تحليق الصقر الأخضر" بحثٌ سياسي واقتصادي كاشِف بقدر ما هو رواية بوليسية حول الجزائر المعاصرة. نصٌّ يفتن بأسلوبه الكلاسيكي الصائب الذي لا يخلو من طرافة شديدة الفعاليّة، كما يفتننا بطريقة تشييده المحكَمة وطريقة سرد قصّته التي تقوم على قفز الراوي ــ الكاتب من شخصية إلى أخرى، من رجل اختار الانخراط في صفوف الأصوليين إلى آخر يحتل منصباً سياسياً أو عسكرياً أو إدارياً مرموقاً، وبالتالي بالموضوعات الكثيرة التي يقاربها، وأبرزها: السلطة السياسية وكواليسها، الجنس والمال الملازمان لممارستها، وفي المقابل، "نضال" الجماعات المتشددة دينياً والعنف المجاني الوحشي الملازم له. عناصر تمنحنا مجموعة صورة دقيقة لبلد يعاني من حالة انحراف أخلاقي مخيف، حيث الجميع يهاب الجميع، وحيث ينشط بكثرة سفلة يطفحون بالطموح ومستعدون لفعل أي شيء من أجل الظهور كأقوياء وذكوريين في عيون الآخرين.
وفعلاً، أكثر من مجرّد محاولة ناجحة وجريئة لكشف الأسرار التي ما زالت تلفّ فضيحة مالية مجلجِلة كلّفت الجزائريين أكثر من خمسة مليارات يورو، الرواية فرصة فريدة لغوص مدوِخ في قلب متاهة السلطة في الجزائر من أجل تعرية نظام سياسي لا يملك الرؤساء والوزراء والموظفون الحكوميون الكبار فيه سوى السلطة التي يمنحها لهم "أصحاب القرار" الحقيقيون، أولئك الذين يقبعون في الظل ولا يوجّهون الأوامر لأحد خطّياً، بل شفهياً بواسطة رسائل مشفَّرة يفهم مَن يتلقّاها فوراً ما هو المطلوب منه وينفّذها بحذافيرها كي لا يعرف نهاية وخيمة.
وفي هذا السياق، يأخذ كل معناه وصفُ الكاتب الطريقة التي استخدم فيها أصحاب القرار آنذاك بعض المجموعات الإرهابية لتصفية أي مسؤول ظنّ بأنه قادر على العصيان، متوقفاً عند كلفة هذا الاستخدام الرهيبة التي تمثّلت بمجازر لا تحصى ولا توصف في حق الأبرياء. يأخذ كل معناه أيضاً الاسم المستعار للكاتب الذي لم يختره كيفما اتّفق، فـ "عميد" هو رتبة ضابط كبير، كما نعرف، أما "لارتان" فهو اسم دواء مستخدم في الطب النفسي يخلّف لدى مَن يتناوله بكثافة شعوراً بقوة لا تُقهَر، ونعرف أن المسؤولين عن القوات الخاصة في الجيش الجزائري كانوا يوزّعونه على عناصرها التي لم يعد مخفياً اليوم أن الجرائم التي ارتكبتها آنذاك تقارع تلك التي ارتكبتها الجماعات الأصولية المسلّحة.
0 تعليقات